هذا الموضوع تحت عنوان الحق في الإضراب بين التشريع والاصطفاف السياسي: أين موقف المعارضة؟:
شهدت جلسة التصويت على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالحق في الإضراب تصويتا بالأغلبية، حيث وافق عليه 84 نائبا، مقابل معارضة 20 نائبا فقط، في ظل غياب لافت لـ 291 نائبا. وبينما عارضت مكونات المعارضة هذا القانون باعتباره يقيد حقا دستوريا ويجهز على مكتسبات الشغيلة، برز موقف حزب الحركة الشعبية كاستثناء غير مبرر، إذ قرر الاصطفاف إلى جانب الأغلبية، في خطوة تطرح أكثر من علامة استفهام حول الدور الحقيقي للمعارضة في المشهد السياسي.
▪هل فقدت المعارضة بوصلتها؟
من البديهي أن دور المعارضة داخل البرلمان لا يقتصر فقط على تسجيل المواقف الرمزية، بل يمتد إلى ممارسة رقابة سياسية وتشريعية صارمة على القوانين التي تمس الحقوق الأساسية للمواطنين. وفي قضية جوهرية مثل تنظيم الإضراب، كان من المتوقع أن يكون موقف المعارضة موحدا في مواجهة ما تعتبره “تكبيلا” لهذا الحق، لكن تصويت الحركة الشعبية لصالح المشروع يثير عدة إشكالات، أبرزها:
•تناقض سياسي واضح: إذ كيف لحزب يُصنّف نفسه في صفوف المعارضة أن يمنح الأغلبية دعما مجانيا في قانون تجمع باقي الأحزاب والنقابات المعارضة على أنه لا يحترم منهجية الحوار الاجتماعي ولا يراعي مصلحة الشغيلة؟
•إضعاف الجبهة المعارضة داخل البرلمان: ففي الوقت الذي تطالب فيه النقابات بإعادة الحوار بشأن هذا القانون، كان من المفترض أن تستغل المعارضة موقفها الموحد كوسيلة للضغط السياسي، لكن الحركة الشعبية أضعفت هذا المسار بموقفها المتناقض.
•إعطاء الشرعية لمسار غير توافقي: فالحكومة حاولت إقناع الجميع بأن هذا القانون “متوازن” ويضمن حقوق كل الأطراف، بينما ترى النقابات أن صياغته تمت بمنطق فرض الأمر الواقع، بعيدا عن حوار حقيقي يأخذ بعين الاعتبار المطالب المشروعة للشغيلة. تصويت الحركة الشعبية لصالح المشروع يمنح الحكومة ورقة رابحة في تسويق “التوافق” حتى وإن لم يكن حقيقيا.
▪التشريع لا يكون بالأغلبيات الرقمية فقط
إن القوانين ذات البعد الاجتماعي لا يفترض أن تمر بمنطق الأغلبية العددية فحسب، بل ينبغي أن تحظى بقبول واسع داخل المجتمع. المعارضة النيابية أجمعت على أن هذا النص القانوني “لم يحترم منهجية الحوار الاجتماعي”، واعتبرته تقويضا لحق الإضراب بدل تنظيمه، حيث يضع قيودا إدارية معقدة على ممارسته، ويسمح للسلطات بالتدخل في منع الإضرابات تحت مبررات فضفاضة مثل “الأزمات الوطنية الحادة”.
وفي حين تدافع الأغلبية عن هذا القانون باعتباره “ضمانة لحقوق العمال واستقرار الاستثمار”، تتساءل النقابات عن الضمانات الفعلية الممنوحة للشغيلة، خصوصا وأن القانون لم يأت بجديد يوسع حقوق العمال، بقدر ما وضع قيودا جديدة عليهم. لذلك، فإن الحديث عن “توازن” بين الحقوق والواجبات يبدو أقرب إلى الخطاب السياسي منه إلى الواقع التشريعي.
▪تصويت الحركة الشعبية: معارضة أم انخراط في الأغلبية؟
في خطوة مفاجئة، اختار حزب الحركة الشعبية، رغم موقعه في المعارضة، التصويت لصالح هذا القانون، مبررا ذلك بأنه يمارس “معارضة مواطنة ومسؤولة”. لكن هذا التبرير يثير تساؤلات جوهرية حول مفهوم المعارضة، ومدى اتساق مواقفها مع التزاماتها تجاه الناخبين والمجتمع.
يدافع رئيس الفريق الحركي، إدريس السنتيسي، عن هذا القرار بالقول إن الحزب “لا يشرع لفئة دون أخرى، وإنما يشرع للوطن”، وإن “مناخ الأعمال والمداخيل والاستثمار هم القادرون على حماية الوطن”. لكن هذا الطرح يتجاهل البعد الاجتماعي والحقوقي للإضراب باعتباره أداة دفاعية للعمال ضد قرارات غير منصفة. فهل يمكن القول إن الحركة الشعبية راعت فعلا توازن القوى في هذا القانون، أم أنها تبنت موقفا أقرب إلى رؤية الحكومة منه إلى رؤية المعارضة؟
▪المعارضة ليست رقما تكميليا في المشهد السياسي
تصويت حزب من المعارضة لصالح قانون ترفضه باقي مكونات المعارضة يمثل خلطًا غير مفهوم للأوراق السياسية، ويجعل الناخبين يتساءلون عن الدور الفعلي لمثل هذه الأحزاب داخل البرلمان. فإذا كانت المعارضة غير قادرة على توحيد مواقفها في قضايا كبرى تمس الحقوق الأساسية للمواطنين، فكيف يمكنها إقناع الرأي العام بأنها بديل سياسي حقيقي؟
إن تبني خطاب “المعارضة المواطنة” لا يعني التصويت لصالح قوانين تثير الجدل والرفض من طرف المعنيين بها، بل يعني البحث عن حلول توافقية حقيقية توازن بين متطلبات الاقتصاد وحقوق الشغيلة. أما الاكتفاء بالتصويت مع الأغلبية، فهو يطرح تساؤلات جدية حول حدود استقلالية المعارضة ودورها في ترشيد السياسات العمومية.
▪المعارضة الحقيقية تحتاج إلى وضوح سياسي
الاختلاف في وجهات النظر داخل المعارضة أمر طبيعي، لكن في القضايا الجوهرية مثل الإضراب، ينتظر من الأحزاب المعارضة أن تبقى متماسكة في مواقفها، لا أن تتحول إلى أداة دعم ضمني لسياسات الأغلبية. الرهان ليس فقط على صياغة القوانين، بل على الشرعية السياسية لهذه القوانين، والتي لا تبنى فقط على عدد المصوتين داخل البرلمان، بل على مدى قبولها داخل المجتمع.
في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بقانون تنظيم الإضراب، بل بمنطق التشريع نفسه. فحينما تغيب المقاربة التشاركية الحقيقية، ويصبح تمرير القوانين مجرد عملية حسابية داخل البرلمان، فإن ذلك يضعف ثقة المواطنين في العملية التشريعية برمتها. المعارضة ليست مجرد ديكور سياسي داخل البرلمان، بل يفترض أن تكون قوة تصحيحية تُمارس الرقابة وتحمي الحقوق الأساسية، وهذا ما لم يتحقق في هذه الجلسة، ليس فقط بسبب الغياب الكبير للنواب، ولكن أيضا بسبب المواقف المتناقضة التي أفرغت مفهوم المعارضة من محتواه الحقيقي.
كان هذا موضوع حول “الحق في الإضراب بين التشريع والاصطفاف السياسي: أين موقف المعارضة؟”
عن موقع العمق
التعليقات